
١٤
تقدم الأول...
- أقف في البقعة المضيئة.
- وماذا حولك؟
- ظلام.
- وماذا في الظلام؟
- لا شيء.
- من أين لك أن توقن ألا شيء في الظلام؟
- لا أرى شيئا .. وما لا أراه لا وجود له.
- هذا يقين لا تملكه.
- إنها حواسي .. وهي كل ما أملك.
- لكنها محدودة.
- وأنا أكتفي بها.
- ألا تريد السير في هذا الظلام لعلك تجد شيئا؟
- لا .. هذا عبث .. أنا هنا في بقعتي المضيئة.
- سجين فيها إذن؟
- إن كانت هي الكل فلا سجن .. وإنما هي العالم الذي لا يوجد غيره.
- وماذا تفعل فيها؟
- أمتص كل ما يمكنني منها حتى أتركها يوما.
- إلى أين؟
- إلى اللاشيء .. حيث الفراق الأبدي .. كأني لم أكن يوما.
- إذن إقامتك فيها عدم.
- نعم .. فلا أنتظر إلا الفراق مهما حلبت من ضرعها المتعة.
***
تقدم الثاني...
- أقف في البقعة المضيئة.
- وماذا عن الظلام حولك؟ .. ما فيه؟
- لا أدري.
- أو لا ترغب في المعرفة؟
- لا أكترث.
- كيف تقضي وجودك في البقعة المضيئة؟
- أنشغل بها عن الظلام.
- وماذا بعد أن تفارقها؟
- لا أدري.
- أو لا تحاول أن تعرف؟
- هذا معناه أن أكتشف الظلام ولست أملك ذلك.
- سر فقط ربما .....
- لا أحتمل ( ربما ) .. أنا هنا في وجودي ولا أهتم بخلاف ذلك.
- إنك بهذا تعيش بلا أمل.
- أتلهّى عن اليأس بضوء البقعة.
- كأنك نائم.
- بل هارب.
***
تقدم الثالث...
- أقف في البقعة المضيئة.
- وما حولك؟
- لا شيء إلا الضوء.
- أما ترى ظلاما؟
- لا يراه الا أهل العمى.
- إذن قل لي: ماذا ترى؟
- لا شيء.
- عجبًا .. ألم تقل أنك لا ترى ظلامًا؟
- هم قالوا أن لا ظلام فكففت عن رؤيته.
- وماذا عما فيه؟
- هم قالوا أنه مليء بالضياء.
- وماذا عنك؟ .. ماذا ترى أنت لا هم؟
- أنا أرى ما يرون.
- ولكن هناك ظلام بالفعل.
- إذن فأنت كافر .. هم يقولون ولا لأحد أن يملك الرفض.
- ماذا تفعل إذن في هذه البقعة المضيئة؟
- أستمع لهم وأقول: سمعًا وطاعة.
***
تقدم الرابع...
- أقف في البقعة المضيئة.
- وما حولك؟
- الظلام.
- وماذا في الظلام؟
- أتجه نحوه لأرى.
- يا للشجاعة .. ألا تخشى ظلمته؟
- إن خشيتها بقيت سجينا في بقعة الضوء حتى أفارقها فأسقط إما في العدم أو العبث أو اليقين الزائف.
- وإذا تقدمت في الظلام ربما لا تجد شيئا فتهوي فيه.
- لابد من هوة .. ولابد من قفزة في الظلام.
- ألا تخشى السقوط؟
- في جميع الأحوال لابد وأن تفارق بقعة الضوء وما دام الفراق يقيني فالقفز في الظلام لا خطر فيه.
- كيف ذلك؟
- إما لا أجد شيئا فيكون فراقًا لبقعة الضوء هو واقع لا محالة .. أو أجد الوجود الحق.
- فإن وجدت الوجود الحق؟
- لابد أن تمتد كف لتتلقفني وتسير بي عبر السبل في هذا الظلام.
- وكيف تجدك هذه اليد؟ .. أبالقفز وحده؟
- القفز وحده لا يكفي وإنما يبقى المعنى.
- وما المعنى؟
- التحرر من البقعة المضيئة كي تثمر القفزة في الظلام.
- ما ذاك؟
- لتلك البقعة المضيئة المؤقتة قيودها التي تمنع القافز من القفز في الظلام الأبدي .. وعلى هذا يكون المعنى الذي أعيش لأجله هو تحرير الأبدي بداخلي من قبضة المؤقت .. هو تحرير المطلق بي من قبضة النسبي
- فإن تحررت.
- تلقفني يد المطلق لا محالة فأصل من العدم إلى الوجود .. ومن النسبي إلى المطلق .. ومن الشك إلى اليقين.
- تلك هي رحلة الحياة إذن.
- ما وُجدت الحياة إلا من أجل تلك الرحلة.
١٥
- مرحبًا زوربا .. يوناني أنت؟
- في حياة سابقة.
- وهبل لك حيوات يا رجل؟
- من الأزل وإلى الأبد.
- ومن أين أنت في هذه الحياة؟
- أينما كان الحب .. أنا إنسان أمه الأرض أينما حلّ.
- وأين يوجد الحب؟
- ينبت في أرض الحرية.
- دائمًا الحرية هي شاغلك في كل حياة لك.
- هي المعنى .. وبالمعنى يكون زوربا أو يتلاشى للأبد.
- وما المعنى الذي تجده في الحرية؟
- علمت أن الحرية حريّتان حيث أن لكل إنسان أصل وصورة ولكل منهما حرية.
- وما الأصل؟
- صورة الله .. أحد .. إنه الإنسان في عالم الوحدة .. حيث لا وجود إلا لله.
- وما حرية الأصل؟
- العبودية.
- الحرية عبودية!!
- نعم .. فالأصل روح من المطلق .. فإن أعلن التسليم له كان حُرًّا .. وما التسليم إلا العبودية.
- وكيف تلك العبودية؟
- أن يصير الإنسان صورة الله فيعود الأصل إلى منبعه ويرتد الشعاع إلى مصدره.
- وما الحرية الأخرى؟
- تقصد حرية الصورة؟
- نعم.
- أما الصورة فهي الإنسان في عالم التعدد .. ذلك الجشع النهم الذي لا يكتفي.
- وما حريته؟
- العبودية.
- يا للعجب .. وما الفارق بينها وبين العبودية الأولى.
- هذا الإنسان من خبثه سمّى النهم واللاشبع بالحرية فظن أن الحرية أن يلتهم ما يشاء وقتما شاء بأي طريقة شاء حتى صار يجد قيمته فيما يبلغه .. فصار يرى قيمته في اسمه وقوته وما يملك وما يشتهي .. فصار عبدًا من حيث أراد أن يكون حُرًّا.
- فهمت .. فتكون عبوديته هي قدرته على السيطرة على ذلك العبد .. ألا يسمح له بأن يستعبده شيئًا.
- فيصير عبدًا للحرية.
- وعبد الحرية حُر.
- إن استطاع أن يراوغ شباك حرية الصورة .. تلك الشباك الملونة بالشهوة والامتلاك والقوة.
١٦
- كان الله ولا شيء معه.
- ثم جئنا قصرنا معه.
- لا .. بل هو على ما كان عليه.
- وحده.
- نعم.
- ونحن؟
- هل تظن الله خاضعًا للزمن .. له قبل وله بعد؟
- لا.
- وأليست كل المخلوقات هي من روح الله؟
- بلى.
- وأليست روح الله أزلية لا أول لها ولا آخر؟
- بلى.
- إذن فما نحن إلا تجليات لهذه الروح .. كنا روحه التي تجلت فينا.
- ألا من مثال؟
- كاتب القصة الذي يخلق شخصياته أولًا في عقبه ثم يوجدها في أوراقه .. ثم تتحول إلى شخوص حية في فيلم .. أليس في كل مرحلة من تلك المراحل لهذه الشخصيات وجود؟
- بلى.
- كذلك كنا أشباحًا في عالم العدم الأزبي .. ثم صرنا تجلّيًا للروح في عالم الوجود الأزلي .. ثم صرنا تجلّيا للروح في عالم الدنيا المؤقت ثم نعود إلى عالم الوجود الازلي .. إذن الله كان ولا شيء معه وهو على ما كان عليه .. وما نحن إلا تجليات للروح الأحدية.
- إذن فالمخلوقات ما هي إلا تنوع وكثرة داخل المطلق الواحد.
- نعم .. كالإنسان الواحد الذي يحتوي على بلايين الخلايا وكلها تعتمد في وجودها على وجوده وعلى وجود طاقة الحياة به التي يوزعها عليها.
- وما طاقة الحياة؟
- إنها سر القيومية الذي قام به الإنسان حيث نفخ الله فيه هذا السر فأقامه.
١٧
- هل الإنسان هو ذو الوعي الوحيد بين المخلوقات؟
- تقول ذلك لأنك تعتقد أن الوعي هو القدرة على الفهم والإدراك .. وبتفوق الإنسان في ذلك استطاع أن يبني الحضارات ويكتشف العالم.
- نعم بالقطع .. فما من مخلوق آخر استطاع ذلك؟
- بل الوعي هو القدرة على اتواصل الموجود مع الوعي الكلي الإلهي المطلق .. وهذا يكون في كل ذرة من ذرات الكون وفي كل موجود من الموجودات لأنها قامت بسر القيومية الذي هو الروح الإلهية التي أقامت كل مخلوق من العدم.
- هذا يعني أن كل موجود له وعيه؟
- نعم .. (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) .. فكل شيء له طريقته في التسبيح أي في وعيه.
- إذن ما معنى التسبيح المذكور هنا؟
- يكون التسبيح بذلك هو تنزيه الوعي في الكائن كي يتواصل مع الوعي الكلي المطلق .. وهي دعوة الروح كي يكون لها القيادة على بقية مكونات الإنسان.
- ومم يكون هذا التنزيه؟
- إن الوجود المطلق هو وجود أحد حيث لا وجود إلا له .. وقد احتوى على وجود متعدد فيه كل الموجودات .. وهو وجود يحتوي على صفات وتناقضات تمايز بين الموجودات .. فكانت للموجودات صفة المحدودية حيث ينفصل كل موجود عن الآخر ومن هنا صار لكل موجود طبيعتان.
- وما هما؟
- الأولى هي الطبيعة المطلقة الثابتة المتصفة بصفات المطلق حيث أعطاها من وجوده بقيوميته .. والثانية هي الطبيعة المحدودة النسبية والتي تناسب عالم التعدد والموجودات .. تلك الطبيعتان لازمتان للموجود كي يستطيع أن يجمع بين الوحدة والتعدد.
- وما نتيجة ذلك؟
- أن صار للإنسان ذاتان .. الأولى هي الذات المطلقة الثابتة التي هي نفخة من روح الله وهي سر القيومية والروح المتصفه بصفات المطلق وذلك ما قيل فيه ( خلق الله الإنسان على صورته ) .. والثانية هي الذات المحدودة النسبية المتغيرة والخاضعة لقوانين عالم التعدد.
- وبهذا يمكنني أن أستنتج مغزى حياة الإنسان و معناها.
- إذن ما هو المعنى في حياة الإنسان؟
- أن يوازن بين الذاتين المطلقة والمحدودة لأنه يعيش بين وجودين .. وكما أن الوجود المطلق يحتوي على الوجود المتعدد .. فإن الذات المطلقة يجب أن تحتوي الذات المحدودة المؤقتة.
- ويكون المعنى كله في المحاولات الإنسانية الدؤوبة ليجعل يد القيادة في يد الذات المطلقة لتحقيق التوازن.
- وتكون الحياة هي رحلة السير من المؤقت للمطلق ومن التعدد للوحدة.
Comments