top of page

نحوُ العرفان1

Writer's picture: Ahmed MagdyAhmed Magdy

١


- يا سيدي .. كيف بدأت طريق التصوف؟

- عندما قابلت رجلا وقلت له: يا سي


دي .. فنهرني وقال لي: لا تسوّد أحدًا فكلنا على الطريق .. ومن سبق كمن لحق.

- ولكن كيف سلك بك هذا طريق التصوف؟

- أدركت أن الكل سواء فهانت الدنيا في عيني وانطردت من قلبي فاندَكَّ الخوف وفنى التعلق وأتى الزهد فملأ كل فراغ.

- أيعني هذا أن الزهد هو التصوف؟

- هو بابه.

- وما الزهد؟

- ثبات القلب إن ارتويت برغبة أو حوصرت بخوف .. تفرح هونًا وتحرن هونًا .. تأتيك الدنيا جارية فتعتقها .. أو تأتيك حُرّة فتبيعها في سوق الرقيق.

- هل الزهد إذن حب الفقر؟



- وهل تحب عدوًا؟! .. بل هو أمن القلب في الغنى والفقر.

- وكيف لقلبي أن يأمن في دنيا إن قالت يومًا: هيت لك .. تقول بعدها: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إما أن يسجن أو عذاب أليم.

- تجيبها: السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه .. تأمن الدنيا إذا أدركت أنها تتغير.

- فإن أدركت تغيُّرها؟

- توقن أن هناءً لا يبقى وأن شقاءً لا يبقى.

- أليس هذا مدعاة للحزن؟

- بل هو الحرية الكاملة .. فإن كان لا يبقى هناء أو شقاء تعلقت بما يبقى.

- وما هو؟

- الحب يا رجل.



***


- أين الله؟

- كفاك خرفًا يا رجل .. ما من إله هناك؟



- وما أدراك؟

- عقلي .. لا نراه .. ولا نجد له أثرًا .. ثم نجد الشرور والمهالك .. فكيف يرتضي أن يقع في ملكه هذا؟ .. إن كان راضيًا فهو شرير .. وإن غلبه الشر فهو عاجز.

- هذا يعني أن عقلك المحدود يدرك الحكمة المطلقة ويفرضها على الإله.

- نعم.

- وكيف تجد الدنيا إن لم يكن لها رب؟

- محض عبث .. تبني ما تفارق .. وتحوز ما يفنى .. وتوقن أن التغيير واقع لا محالة.


***


- وأنت .. أين الله؟



- لا أدري .. لعله موجود أو غير موجود.

- ألا تسعى لكي تعرف؟

- لا .. أنا المحدود كيف أحيط به أو بخبره.

- لعلك تجد ولو طرفًا من خبره .. أنت لم تجرب .. تملك الكثير من الأدوات ثم تكتفي بأن تقول: لا أدري.

- لا أجد السبيل.

- لقد أغلقت بابه .. لعلك إن بحثت تجد.

- وما الجدوى؟

- أن يصير للحياة معنى .. معنى البحث والتجريب.

- ما الحياة إلا متاهة لا وصول فيها .. إنه اليأس .. واليأس يقيد أقدام البحث والتجريب.


***


- وأنت .. أين الله؟



- هل تسأل أيها الكافر .. بل أين أنت؟

- لا تجدني وتجده.

- بالطبع .. هو اليقين.

- ومن أين لك باليقين هذا؟

- هذا ما وجدنا عليه آباءنا.

- أولو كان آباؤكم لا يعلمون شيئًا.

- كافر .. آباؤنا لا يخطئون.

- وماذا عن آباء غيركم؟

- كافرون.

- إذن ما الحياة بالنسبة لكم؟

- نحن أسيادها وغيرنا عبيدنا .. لنا كلمة الرب .. نفسرها ونفهمها ونطبقها وعلى الكل السمع والطاعة .. فمن يملك الصواب يخضع له الجميع.




***


- ما لك تسألنا وكأنك إله .. حان دورك لتقول لنا: أين الله؟

- أعلم فقط أين أنا.



- وأين أنت؟

- أنا هنا .. في تلك الدائرة المضيئة التي يحيط بي ضوؤها لذراع واحد .. ضوء اسمي وأرضي وأسرتي .. وكل ما أمتلك .. لا أرى أبعد من ذلك .. إذ يحيط الظلام بدائرتي.

- والله؟ .. أهو في الدائرة أم الظلام؟

- لا أدري.

- أنت إذن مثل صديقنا اللاأدري.

- لا .. هناك فارق جوهري.

- وما هو؟

- اللاأدري غير مكترث .. أما أنا فقررت أن أسير .. أن أقتحم الظلام بقلب جسور وأنا على يقين أني أجده.

- ومن أين لك هذا اليقين؟

- لا أملك رفاهية الاختيار .. فإما يقين بوجوده أو اللاشيء .. لذلك سأسير فأفنى أو أجده .. إنه الأمل أو الوقوع في هُوَّة العدمية واليأس.



- وكيف تجد الحياة بهذا اليقين؟

- إنها الفرصة .. التجربة .. المعنى الذي يدفعني للبحث والتمسك بالأمل.

- وماذا لو تجده؟

- يكفيني أن يعلم سعيي.

- وإن لم يكن موجودًا؟

- يكفيني أن المعنى ملأ حياتي.

- أتخدع نفسك بوهم تتشبث به لتملك الأمل؟

- عندما تكون في متاهة .. إما أن تستكين في مكانك حتى تهلك أو تسير في متاهتك لعلك تصل .. إنه ليس خداع للنفس بأمل متوهم وإنما هو الإصرار على البحث والتجريب لا القعود واليأس والعبث.

- كأنك تقفز إلى هوة مظلمة.

- إنه اليقين في أن يد الله الحانية ستتلقى القافز لتهدهده وترعاه.

- وإن لم يكن لها وجود.

- تكفيني شرف المحاولة والحياة لمعنى.




٢


- أيها العارف .. هل تعرف الله؟

- ما سُمّيت عارفًا إلا لأني أجهله.

- عارف جاهل!!

- بل جاهل عارف.



- وما الفارق؟

- العارف الجاهل مُدَّع .. يوقن واليقين مستحيل .. كالسابح ولم يبتل ثوبه .. ناقل عن ناقل .. يوسم غيره بالجهل ومخالفه بالكفر وموافقه بالعبد .. يرى الحقيقة أسيرته والحق سريرته.

- والجاهل العارف؟

- القافز في الهوّة الظلماء في الليلة الحلكاء حيث لا أرض ولا سماء .. يهوي فلا يضطرب .. يشق السواد فلا يتقهقر .. يقينه أن يدًا تتلقفه أو تتركه إلى الأبد .. فإن تلقفته نجا وإن تركته فنى .. فيستوي عنده النجاة والفناء.

- ولمَ المخاطرة إذن؟

- لا يملك خيارًا.

- فليقف مع الواقفين على حافة الهوّة.

- ليملأ بطنه ويبري فرجه ويملك فانيًا ويتصارع على الهالك؟ .. لا .. هذا فعل العقلاء.

- وهل التعقل مذمّة؟

- التعقل قيد الأسير .. يبقيه عند الحافة .. كالخراف تتع


قل فترضى بالمقام بجوار طعامها حتى يأتيها من يجُرُّ بقرنيها حتى الذبح.

- وماذا عرفت في جهلك؟

- أن يد الله تنتظر قفزتك.

- وما أعلمك أن يده هناك؟

- بالجهل عرفت.

- كيف؟

- عندما وجدت كل شيء يتغير أيقنت أن الثابت إما هو الأصل أو لا وجود له .. فإن كان لا وجود له فلن يضيرني القفز .. فإنما فررت من متغيّر إلى متغيّر .. وإن كان هو الأصل فإنه لا محالة يمد يده.

- أعرفت كيف هو؟

- أحد لا وجود لغيره .. أول آخر .. ظاهر باطن .. حي .. حكيم .. قادر .. قيوم.

- كيف ذلك؟

- في ذلك تفصيل.



٣




- ما الأحد؟



- الذي ليس هناك غيره.

- ولماذا تجد الله أحدا ونحن معه؟

- لأننا لسنا غيره.

- كيف؟ .. أنحن هو؟

- نحن هو ولسنا هو.

- عجيب ما تقول .. أتجمع الأضداد؟

- أ ترى صورتك في خيالك .. أتراها أنت أم ليست أنت؟

- هي أنا وليست أنا.

- وكذلك الله .. فلو أن هناك غيره للزم أن يكون هناك وجودان .. أحدهما لله والآخر لغيره ولكنه وجود واحد.

- وماذا عنا؟ .. نحن المخلوقات.



- نحن تجلياته التي تحيا فيه وبه ومنه وله .. خلق الله آدم على صورته .. هو الوجود اللازم الذي كان قائمًا بذاته .. ونحن الوجود الممكن حيث يلزمنا أن ينفخ فينا الله من وجوده كي نوجد.

- إذن كنا غير موجودين وهو أوجدنا.

- لا يمكن القول بذلك .. فالله لا ينشئ جديدًا .. إنما كنا في عالم العدم.

- وهل للعدم عالم؟

- نعم .. تمامًا كالفكرة في رأسك .. هي معدومة موجودة إلى أن تخرجها للوجود .. مجرد تفكيرك بها هو وجود في حد ذاته ينتظر الإيجاد بالانتقال من العدم للوجود.

- فأخرجنا الله من العدم للوجود .. من الظلمات إلى


النور.

- ونحن ندين بوجودنا لوجوده ولذلك نحبه.

- أحبنا فأوجدنا وأوجدنا فأحببناه.

- فقام الوجود كله على الحب.



- فماذا علينا إن كان أحدًا؟

- أن ندرك أن كلنا تجليات له وهو الأحد وبهذا نحب بعضنا بعضًا فكلنا جميعًا صورته.




٤


- وما الأول الآخر؟

- الذي لا قبل به ولا بعد له .. فهو الأزلي الأبدي .. القديم الذي بلا بداية والباقي الذي بلا نهاية.

- كيف يكون بلا قبل وبلا بداية؟

- إن كانت له نقطة بداية للزم أن نسأل: وماذا كان قبلها؟ .. فإن كان له قبل لكان معنى هذا أنه غير محيط بكل شيء .. إنه هو الوجود نفسه فكيف يكون له قبل .. ولكن عقولنا التي اعتادت أن لكل شيء نقطة بداية هي التي لا تتصور ذلك.

- فكيف نتصور ذلك إذن؟

- بالعرفان .. إنه حاسة الروح.

- وما الظاهر الباطن؟

- لأنه الوجود الأحد فهو ظاهر في كل موجود .. كل موجود ظاهر هو تجلّ له .. ولأن قيوميته السارية في أشباحنا هي التي تقيمنا فهو باطن في كل شيء.



- وبهذا تجتمع الموجودات في وحدة الظهور والبطون.

- فمن يدرك هذه الوحدة أدرك أن طاقة واحدة هي التي تجمع الموجودات.

- وما هي؟

- الحب.

- ولكن لماذا نجد الكراهية والخصومة إذن؟

- عندما يتغلب زيفنا على حقيقتنا.



٥




- وما الحيّ؟

- الحياة وجود لا ينعدم.

- أليس الإنسان حيًّا؟

- إن كنت تقصد ذلك المعدوم المتجه للعدم فهو ليس حيًّا.

- لماذا؟

- أن يمتد الزمان من قبله ومن بعد فلا يشغل إلا نقطة لا تذكر فيه فهو هالك معدوم من الأصل.

- ومتى يكون حيًّا؟

- كل شيء هالك إلا وجهه.

- أتقصد أن كل شيء يهلك في حين أن وجه الله هو الباقي؟

- لا .. لاحظ أن كل شيء هالك بالفعل ولم يقل أنه يهلك .. ف


هو من الأصل هالك فان حتى ولو اكتسب وجودًا مؤقّتًا .. أما الوجه غير الهالك فليس وجه الله بل هو وجه الشيء.

- كيف هذا؟ .. دائما ما نفهمها أن كل شيء يهلك إلا الله.

- بل معناها .. كل شيء هالك فان إلا وجه الشيء.

- وما وجه الشيء؟

- تلك الحقيقة الإلهية التي قام بها هذا الشيء وصار له وجود .. إنه الوجه الباقي لأنه نفخة الله التي لا تفنى .. إنها الحياة من الحي.

- إذن من الحي؟

- إنه ذو الحياة التي لا تفنى ولا تنعدم ولا تفتقر إلى من يُوجدها فهي قائمة بذاتها.

- إذن فلا حيّ إلا الله.

- ونحن تجلّيات الحيّ المفتقرة إليه .. فمن خدم الفاني فيه من طين فنى .. ومن خدم الباقي فيه من روح صار حيًّا.




٦


- ما الحكيم؟

- من لا شرّ له.

- لكن إن كان الله حكيمًا وهو مصدر كل شيء فكيف جاء الشر؟

- جاء الشر من تلاقي التعدديات .. الله أحد .. فإن تجلّى تكاثرت الوحدة في تعدديات .. في كل فرد منها كل الخير .. لكن إذا تلاقت فتضادت ربما كان تضادها خيرًا لفئة وشرًّا لفئة.

- كيف ذلك؟ .. هل من مثال؟

- النار وحدها خير محض فهي تجلّ لله .. والخشب وحده خي


ر محض فهو تجلّ لله .. فإن تلاقيا احترق الخشب .. وربما كان ذاك نفعًا لطاهي الطعام وشرًّا لصنعة النجار.

- ماذا عن مولود وُلد مشوّهًا .. أليس في ذلك شر خُلق بيد الله؟

- أما كل صفة في الوالد مفردة فهي خير .. وكل صفة في الوالدة مفردة فهي خير .. فإن تلاقت الصفات فربما لا تتمازج وتنتج تشوّهًا نحسبه شرًّا.

- ولماذا سمح الله بوجود الشر؟

- ثمن الحرية الضروري .. فحرية إرادتك تكفل لك حرية الاختيار فإن تدّخل الرب منعك حريتك .. ومنع الحرية هو أكبر شر.

- إذن فالله الحكيم قد جعل كل شيء خيرًا مادام وحده.

- نعم .. فإن تلاقت الأشياء والأفراد إما انسجامًا يحدث خيرًا وإما تنافرًا يُحدث شرًّا.

- ولماذا نفترض أن الله حكيم؟

- الطيش ضد الحكمة .. والطيش نقص .. والوجود كا


مل .. والله هو الوجود الكلي .. إذن فالله حكيم.

- كيف إذن ننظر لما يقع من شرور؟



- إمّا يكون الشر تلاقيًا لأضداد فعلينا عزلها أو التعامل معها .. أو نتيجة لحرية الإرادة فمن الواجب مقاومتها بإرادة الخير.

- فما نراه سواده ربما رأى غيرنا بياضه.



٧


- آلله قادر؟



- أليس حكيمًا؟

- بلى.

- إذن هو قادر.



- وما علاقة الحكمة بالقدرة؟

- إن كان حكيمًا بلا قدرة كانت حكمته عاجزة .. تطلب الصواب ولا تحوزه .. وإن كان قادرًا بلا حكمة كانت قدرته طيشًا لا يهتدي.

- وما القدرة؟

- الإحاطة التامّة بالكل .. والتصرف التام في الكل.

- إن كانت تلك القدرة فإني بلا قدرة .. وإنما أنا الريشة في الريح الإلهية تحملني كيف تشاء.

- قدرته طلاقة وقدرتك استطاعة.

- وما الفارق؟



- إن أراد فلا راد لقدرته .. وإن أردت تحددت بما يطيعك .. فما أطاعك استطعته .. وما عصاه جرت عليه قدرته ولو أَبَى.



٨



- آلله قيّوم؟

- وليس ذلك لغيره.

- لمَ؟

- كان الله ولا شيء معه وهو على ما كان عليه.

- ونحن؟

- صورة معدومة إما تسري فيها قيومية الله فتصير وجودًا أو تفتقر القيومية فتظل عدمًا.

- وما تلك القيومية؟



- سر الله الذي يسري به في المعدوم فيصير موجودًا .. إنها الروح.

- أهي منفصلة أم متصلة بالله؟

- الانفصال والاتصال صفات الموجودات لا الله .. إنما هي الله.

- الله فينا؟

- أترى البحر في قطرة منه؟

- لا.

- والقطرة أتراها بحرًا؟

- لا.

- والشمس .. أهي شعاعها؟

- لا.

- وشعاعها .. أهو الشمس؟



- لا.

- كذلك الله .. سرى فينا سر قيومته فكان الوجود.

- إذن هو سر الله .. والله أحد .. فسرّه أحد.

- نعم .. وكلنا يسري فينا السر الأحد.

- إذن فكلنا واحد.



- إلا أننا أَبَينا إلا الفرقة.

- الحق يوحدنا والزيف يفرقنا.


4 views0 comments

Recent Posts

See All

Comments


bottom of page